أن يقف الحاخامات اليهود عند تخوم جبل حرمون.. (الجبل المقدس ،الجبل العالي...) على وقع التوغل العسكري لجيش الاحتلال الاسرائيلي في جنوب سوريا لتلاوة الترانيم التوراتية وممارسة الطقوس التلمودية لا ريب ان مقاصده ومراميه ليست مجرد سياحة دينية او بيئية عادية بقدر ما تحمل ابعادا لاهوتية ذات صلة رحمية بالاطماع الصهيونية التوسعية ارتكازا الى الاطار المرجعي العقائدي لحكومة اليمين القابضة على السلطة في الكيان العبري.
لذا يبرز تباهي وزير الحرب الصهيوني يسرائيل كاتس بالسيطرة على جبل الشيخ كاملا بمقلبيه اللبناني والسوري بعد احتلال الموقع الاستراتيجي الذي انسحب منه الجيش السوري في ضوء العمليات العسكرية لهيئة تحرير الشام .
ان ترانيم الحاخامات عند أقدام حرمون (جبل الشيخ) وزهو وزير الحرب كاتس بالسيطرة على الحرمون نابع من بعدين اثنين الأول لاهوتي يندرج في سياق السرديات والنصوص التي تتناول الجبل المقدس في الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد) حيث لحرمون مكانة خاصة بما يزيد عن 70 اشارة ودلالة من زوايا مختلفة.
أما البعد الثاني فهو محض اقتصادي والحاجة للمياه التي تعتبر هدفا استراتيجيا كونها مسألة حياتية وجودية للدولة الصهيونية.
في البعد اللاهوتي تشير الدراسات والأبحاث ان الجبل العظيم اقدس الجبال تاريخيا في بلادنا ومركز العبادات عند السوريين الاقدمين ،الفينيقيون عبدوه واطلقوا عليه اسم احد آلهتهم البعل حرمون ،فتنهم منذ أربعة آلاف سنة بجماله وعذوبة مائه وخيراته فأحبوه وأقاموا لبعلهم البعل حرمون هيكلا على قمته.. الاموريون العرب سموه شنير او سنير ودعاه الصيدونيون سيريون اي المتلألئ وعرفه جغرافيا العرب بجبل الثلج وقد تكون هذه التسمية ترجمة لاسمه في الآرامية طور تلجا..وحرمون وفق قاموس الكتاب المقدس اسم عبري معناه جبل مقدس حرم اون ..اون السيد اي الله في مفهومنا:حرم الله فالمعبد مكان مقدس مكرس منذور متخصص لوجه الله فهو حرم...
وعرف بجبل الشيخ كون الثلج الذي يكلل قممه لا يفارق تلك القمم على مدار السنة وهو أشبه بالعمامة البيضاء.
وفي أرميا14/18 ((لا يمكن لشريعة الرب أن تزول بقدر ما هو مستحيل ان يخلو جبل حرمون من ثلجه..)).
وفي الترغوم اي ترجمة الكتاب المقدس من العبرية إلى الآرامية نجد في سفر تثنية اشتراع 9/3 تسمية جبل الشيخ للدلالة إلى حرمون وفي التلمود يسمى حرمون الكبير .
ويتغزل الحبيب بحبيبته في نشيد الاناشيد في التوراة حيث يرد اسم لبنان 6مرات في 8فصول:هلمي معي من لبنان أيتها العروس من رأس أمانة من سنير (حرمون) من مرابض الأسود من جبال النمور..سنير 8/4 .((ورائحة ثيابك كرائحة لبنان )) 11/4 . ويصفها بأنها انهار من لبنان 15/4 ((وأنفها كبرج لبنان الناظر نحو دمشق )) 5/7 أليس احتلال الجيش الصهيوني للبرج العسكري السوري المطل على دمشق يتسق مع هذا التوصيف برمزيته وموقعه الجغرافي وترجمة توراتية محققة.
ايضا ويبدو ندى حرمون صورة جميلة أخرى تعزز سحر لبنان وجاء في المزمور 3/133 ((هو كندى حرمون النازل على صهيون)).
الأنبياء اليهود قدموه مثالا لشعبهم في الجمال والخصب رمزا للهيكل المقدس وصلى موسى إلى الله كي يدعه يرى ()هذا الجبل الطيب ولبنان))تثنية الاشتراع 3/2425،وأعلن الملك الاشوري سنحاريب بأنه صعد اليه(سفر الملوك) وسكنته الآلهة واقترنت به القدسية قرونا .وعلى هضابه تجلى السيد المسيح كما جاء في الانجيل المقدس وحرمون ذاته هو الجبل العالي جدا الذي كان يتردد اليه يسوع وتذكر الاناجيل زيارته لبانياس جارة حرمون المعروفة بقيصرية فيليبس فقد صعد المسيح وثلاثة من تلامذته من بانياس إلى الجبل العالي وعاد ليشفي صبيا(مسكون بروح نجس أصم ابكم) ويقول النص الانجيلي:((أخذ يسوع بطرس ويعقوب واخاه يوحنا وانفرد بهم على جبل عال وتجلى بمشهد منهم فاشرق وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور ...وبينما هو يتكلم ظللتهم سحابة مضيئة.))
لقد سعى اليهود جاهدين لاستبعاد واقعة التجلي عن حرمون والصاقها بجبل طابور للافادة سياحيا في الداخل المحتل وحرمان اللبنانيين من هذا الحدث الإلهي الذي إذا ما استثمر سيجلب ملايين المؤمنين من اصقاع الأرض إلى لبنان والتبخيس اليهودي بالواقعة وحرف الانظار عن حرمون متعمد طالما حرمون ليس بقبضتهم العسكرية وقد تتغير السردية اذا ما حصل العكس وقد حصل للأسف الشديد!؟؟.
أن اكتناز كتب اليهود واسفارهم وما سرقوه من تراث بلادنا من أساطير بالاشعار والتوصيفات التي تقدس حرمون جعلت الجبل المقدس هدفا للعين الصهيونية الفارغة والسعي لابتلاعه موقعا جغرافيا استراتيجيا وتاريخا وتراثا قدسيا عظيما.
أما لجهة الاطماع الصهيونية بحرمون الغني بالمياه ومصدر التغذية الهائل للروافد والانهار التي تنساب نحو فلسطين.
ليس خافيا ان قادة الكيان العبري بناء لتوصيات مخططين صهاينة وضعوا قاعدة مضادة لمبدأ التفاوض القائم على الأرض مقابل السلام تحقق لهم ما يريدون في مجال المياه وتسمى السلام مقابل المياه بل وصل الأمر بالبعض إلى التأكيد على ان القضايا الامنية التي تتحدث عنها إسرائيل باتت تعني في الوقت الحالي ثبات توفر امدادات كافية من المياه.
وليس أدل في قول شمعون بيريز :((للحرب احتجنا إلى أسلحة وللسلم نحن بحاجة إلى مياه)).
لذا نعي اهتمام الكيان العبري البالغ بحرمون وهضابه سيما وانه يختزن مليار ونصف مليار متر مكعب من المياه يغذي الاردن واليرموك والأعوج وتابع من جواله انهار الدان ،بانياس والحاصباني.
لقد أعلن اليهود في وقت مبكر اطماعهم بجبل حرمون وقبل قيام دولة الكيان متسلحين بأوهام دينية وردت في مزامير العهد القديم وقد جاء في المذكرة الصهيونية التي رفعتها الحركة الصهيونية إلى مؤتمر السلام الذي عقد في فرسان في باريس عام 1919: ((ان جبل الشيخ (حرمون) هو أبو المياه الحقيقي لفلسطين ولا يمكن فصله عنها دون توجيه ضربة قاسمة إلى جذور حياتها الاقتصادية بالذات وجبل الشيخ لا يحتاج فقط إلى إعادة تحريج وتشجير بل ايضا إلى أعمال أخرى قبل أن يصبح مؤهلا ليكون خزان مياه البلاد،لذلك يجب أن يخضع لسيطرة اولئك الذين تحدوهم الرغبة الشديدة ويملكون القدرة الكافية لاستغلال امكاناته حتى أقصى الحدود..)).و اليوم بالفعل تحققت السيطرة على حرمون وأعلن وزير الحرب كاتس ذلك بنشوة المنتصر وعجرفة الجشع المتكالب على مواردنا .
وكان هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية قد أبدى رأيه حول هذا الموضوع فيقول: ((ان المؤسسين الحقيقيين للأراضي الجديدة القديمة هم مهندسو الماء وعليهم يعتمد كل شيئ)).
وكان الباحث الصهيوني فريش فاسد في كتابه (حدود امة) قد لخص المخططات التوسعية الصهيونية على صعيد الموارد المائية: ((لما كانت الموارد المائية محدودة في فلسطين فقد جرى توسيع مخططاتنا حتى تشمل الاراضي الواقعة إلى الشمال والشمال الشرقي من فلسطين كي تصل إلى منابع الاردن ونهر الليطاني وثلوج حرمون..))
لذا ليس عبثا اهتمام (اسرائيل) بحرمون خصوصا عندما تشير الأرقام المائية ان الروافد الهامة لحوض نهر الاردن الأعلى حيث بحيرة الحولة تأتي من جبل الشيخ (حرمون) بقسم كبير منها وهذه الأنهار هي :الحاصباني وطاقته 150 مليون متر مكعب وينبع من محيط جبل الشيخ وسط منطقة راشيا ومن ثم نهر بانياس ينبع من جبل الشيخ في سوريا ويرفع نهر الاردن بحوالي 160مليون متر مكعب .ثم نهر الدان الذي ينبع من سفوح جبل الشيخ في سوريا ويعتبر أغزر روافد نهر الاردن ويغذيه بنحو 255 مليون متر مكعب.
مع الإشارة إلى أن الكيان العبري وعبر شركة عدن اليهودية يبيع مياها معدنية من جبل الشيخ في منحدراته الجنوبية في مزارع شبعا ما يقارب الأربعين مليون دولار سنويا على شكل عبوات على أنها مياه مقدسة من حرمون.ودون ان ننسى القطاع السياحي مليار ونصف دولار سنويا في منتجعات جبل الشيخ في الاراضي اللبنانية.
أن ما تقدم يظهر الهدف الحقيقي للتوسع العسكري الصهيوني في منطقتي القنيطرة ودرعا حيث أحواض المياه وتجمعاتها ومصدرها حرمون وبالتالي اعلان سقوط اتفاق فض الاشتباك بين الكيان العبري وسوريا في ظل حال اللاتوازن في الوضع السوري وغياب اي حضور للدولة الوطنية السورية سارعت حكومة نتنياهو لالتقاط اللحظة الخاوية أمنيا وسياسيا لالحاق الأحواض المائية الحيوية بالكيان العبري وتحقيق الحلم التاريخي بالسيطرة على حرمون ومياهه وتراثه القدسي...